سبب تسمية وقفة عرفة

سبب تسمية وقفة عرفة

إن يوم عرفة من أعظم الأيام عند المسلمين، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، ويُعرف بـ”وقفة عرفة”، أو “يوم الوقوف بعرفة”، لما فيه من طقوس وشعائر عظيمة، ولما له من مكانة دينية وروحانية كبرى. يتوافد فيه الحجيج من كل بقاع الأرض إلى جبل عرفة، ليشهدوا هذا الموقف العظيم الذي يُعد الركن الأعظم من أركان الحج، والذي لا يتم الحج بدونه.

ومن هنا تتجلى أهمية بيان سبب تسميته بـ”وقفة عرفة”، وشرح جذور هذا الاسم، ومعانيه اللغوية والشرعية، وارتباطه العميق بشعائر الحج وتاريخ الأنبياء. يتناول هذا المقال الموسّع شرحًا تفصيليًا لجوانب متعددة تتعلق بالتسمية، وبيان الأبعاد الدينية واللغوية والتاريخية والثقافية التي تقف خلف إطلاق هذا الاسم.

أولًا: المعنى اللغوي لكلمة “عرفة”

اللفظ “عرفة” مأخوذ من مادة (ع ر ف) في اللغة العربية، وهي تدل على إدراك الشيء بعد خفاء، ويُقال: “عرف فلان كذا” أي أدركه بعقله أو علمه به. ومن هنا جاءت كلمة “عرفة” إشارة إلى إدراك معين أو معرفة محددة، فارتبطت بالتسمية مع قصة النبي إبراهيم عليه السلام، ومع فعل الوقوف الذي يحدث فيها.

أما اسم “عرفة” فقد اختلفت الروايات في أصل تسميته، وفيما إذا كانت التسمية توقيفية من عند الله سبحانه وتعالى أم اجتهادية من الناس بسبب حدث أو قصة معينة. لكن المُتفق عليه أنها ارتبطت بذلك الموضع الجغرافي الذي أصبح ميدانًا لأهم شعيرة في الحج.

ثانيًا: وقفة عرفة في الشرع الإسلامي

وقفة عرفة تُشير إلى الموقف العظيم الذي يقف فيه الحجاج في سهل عرفات منذ زوال شمس اليوم التاسع من ذي الحجة وحتى غروب الشمس. وقد أجمعت الأمة الإسلامية على أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من أركان الحج، لقول النبي ﷺ: “الحج عرفة” [رواه الترمذي وأبو داود والنسائي].

ويسمّى اليوم الذي يقف فيه الحاج في عرفة بـ”وقفة عرفة” لأن الحجاج يقفون فيه بجبل عرفة، ويلبون ويذكرون الله ويكثرون من الدعاء. ومن هنا جاءت التسمية بـ”الوقفة”، والتي أصبحت صفة ملازمة لهذا اليوم الجليل.

ثالثًا: سبب التسمية بـ”عرفة” في الروايات التاريخية

وردت عدة أقوال في سبب تسمية هذا المكان بـ”عرفة”، وسبب تسمية اليوم بـ”يوم عرفة” أو “وقفة عرفة”، ومن أشهر هذه الأقوال:

1. أن آدم وحواء تعارفا فيه بعد الهبوط إلى الأرض:

روى بعض المفسرين أن آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض، هبط في الهند، وهبطت حواء في جدة، وظلا يبحثان عن بعضهما حتى التقيا في صعيد عرفة، ولما تعارفا عليه، سُمي “عرفة” بهذا الاسم.

2. أن إبراهيم عليه السلام عرّفه جبريل عليه السلام المناسك:

يُقال إن جبريل عليه السلام كان يُعلّم نبي الله إبراهيم عليه السلام مناسك الحج، وكان يقول له عند كل مشعر: “أعرفت؟”، فيجيبه إبراهيم: “عرفت”. وعند جبل عرفات، قال له: “أعرفت؟”، فقال: “عرفت”، فسُمي المكان “عرفة”.

3. أن الناس يتعارفون فيه:

من الأوجه الأخرى للتسمية أن هذا اليوم والمكان يشهد تجمعًا ضخمًا من المسلمين من شتى بقاع الأرض، يتعرف فيه الناس بعضهم على بعض، ولهذا سُمّي “عرفة”.

4. أنه مكان الاعتراف بالذنب والتوبة:

يُقال إن تسمية “عرفة” جاءت لأنه موضع يعترف فيه الإنسان بذنوبه، ويتوب إلى ربه، ويدعو الله بتذلل وخشوع، ولهذا سُمي عرفة لأنه يُذكر فيه العبد بذنوبه ويقر بها بين يدي الله تعالى.

رابعًا: التسمية بـ”وقفة عرفة”

الوقوف بعرفة يعني أن يبقى الحاج في حدود عرفات بعد زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة وحتى غروب الشمس، وهو أعظم أركان الحج وأبرز شعائره. ولهذا سُمي اليوم بـ”وقفة عرفة” لأن الحجاج يظلون واقفين في ذلك اليوم في سهل عرفات، متضرعين، راجين المغفرة والثواب.

وتُعد هذه الوقفة فريدة من نوعها في حياة المسلم، فهي لحظة فاصلة بين الغفران والذنوب، وبين الأمل والخشية، وقد جاء في الحديث النبوي أن الله يُباهي ملائكته بأهل عرفة، ويقول: “انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا”.

خامسًا: الخصائص الفقهية ليوم عرفة

يوم عرفة لا يقتصر فضله على الحجاج فقط، بل يشمل غير الحاج كذلك، إذ يُستحب صيامه لغير الحاج، ويُعد صيامه من أعظم الصيام، لما ورد في الحديث الصحيح: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده” [رواه مسلم].

أما للحاج، فإن أعظم أعماله في هذا اليوم هو الوقوف في عرفة، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، والخشوع لله، وتوحيده، فقد ورد عن النبي ﷺ قوله: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة” [رواه الترمذي].

سادسًا: الأبعاد الروحية لوقفة عرفة

وقفة عرفة لا تُعتبر مجرد طقس تعبدي أو وقوف جسدي في موقع معين، بل هي مشهد روحي عظيم يعبر عن ذروة التجلي الإيماني في حياة المسلم. حيث يتجرد الإنسان من كل مظاهر الدنيا، ويقف في صعيد واحد مع ملايين من إخوانه المسلمين، يدعون الله بقلوب خاشعة، وألسنة متضرعة.

الوقوف بعرفة هو لحظة للتوبة الصادقة، والاعتراف بضعف النفس البشرية، وتجديد العهد مع الله، وهو من أعظم مظاهر التوحيد والتجرد لله عز وجل.

سابعًا: التوقيت الجغرافي والزماني للوقفة

تبدأ الوقفة بعرفة شرعًا من زوال شمس اليوم التاسع من ذي الحجة وحتى غروبها، ويُعد الوقوف داخل حدود عرفة في هذا الوقت المحدد أمرًا لازمًا لصحة الحج. وتُعرف حدود عرفات بعلامات واضحة منصوبة في المكان، ويُعد الوقوف خارجها غير مجزئ شرعًا.

والمكان يُعرف بـ”صعيد عرفة” أو “جبل عرفات”، ويمتد على مسافة شاسعة خارج حدود الحرم، لكن داخلة في الحلّ، ويُسمّى الوقوف فيه بالوقفة الكبرى، وهي تتكرر كل عام، وتشكل ذروة موسم الحج.

ثامنًا: أوجه التميز في التسمية

التسمية بـ”وقفة عرفة” تعكس المعاني التالية:

تاسعًا: التسمية في الفقه الإسلامي

في الفقه الإسلامي، تُعطى “وقفة عرفة” أهمية فقهية عظمى، حيث يُعتبر الوقوف في هذا اليوم شرطًا لصحة الحج، ومن فاته الوقوف بعرفة فلا يُعتبر حجه صحيحًا، لقول النبي ﷺ: “من أدرك عرفة فقد أدرك الحج” [رواه الترمذي].

ويُعتبر إدراك الوقوف بعرفة من زوال الشمس إلى طلوع فجر اليوم التالي (يوم النحر) شرطًا جوهريًا، سواء وقف الإنسان قائمًا أو جالسًا أو راكبًا، أو حتى مريضًا محمولًا، ما دام في حدود عرفة.

عاشرًا: الأثر الثقافي والاجتماعي لتسمية وقفة عرفة

ارتبطت تسمية “وقفة عرفة” في الثقافة الإسلامية بالروحانية والمغفرة والتجديد، فأصبح يومًا ذا طابع خاص، يُكثر فيه الناس من الدعاء والتضرع والصيام، ويُعتبر محطة سنوية لإعادة الاتصال بالله، والتطهر من الذنوب، وتجديد العهد مع الخالق.

كما أن لهذه الوقفة أثرًا اجتماعيًا فريدًا، إذ توحد المسلمين في زمان ومكان واحد، متجردين من مظاهر التمايز الطبقي والاجتماعي، يلبون نداء واحدًا “لبيك اللهم لبيك”، وهو ما يمنح التسمية دلالة على وحدة الأمة الإسلامية.

المصادر:

1. صحيح مسلم – باب صيام يوم عرفة

2. كتاب “الفقه الإسلامي وأدلته” للدكتور وهبة الزحيلي – باب الحج